فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{هُمُ الّذِين يقولون لا تُنْفِقُوا على منْ عِنْد رسُولِ اللّهِ حتّى ينْفضُّوا}
هذا أيضا من مقالاتهم في مجامعهم وجماعتهم يقولونها لإخوانهم الذين كانوا ينفقون على فُقراء المسلمين تظاهرا بالإِسلام كأنهم يقول بعضهم لبعض تظاهرْ الإِسلام بغير الإِنفاق مثل قولهم لمن يقول لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله، ولذلك عقبت بها.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن قائل هذه المقالة عبد الله بن أُبيّ ابن سلول كما تقدم في طالعة تفسير هذه السورة فإسناد هذا القول إلى ضمير المنافقين لأنهم تقبلوه منه إذ هو رأس المنافقين أو فشا هذا القول بين المنافقين فأخذوا يبثونه في المسلمين.
وموقع الجملة الاستئناف الابتدائي المعْرببِ عن مكرهم وسوء طواياهم انتقالا من وصف إعراضهم عند التقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وصف لون آخر من كفرهم وهو الكيد للدِّين في صورة النصيحة.
وافتتحت الجملة بضميرهم الظاهر دون الاكتفاء بالمستتر في {يقولون} معاملة لهم بنقيض مقصودهم فإنهم ستروا كيدهم بإظهار قصد النصيحة ففضح الله أمرهم بمزيد التصريح، أي قد علمتُ أنكم تقولون هذا.
وفي إظهار الضمير أيضا تعريض بالتوبيخ كقوله تعالى: {أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار} [ص: 60].
وليكون للجملة الاسمية إفادةُ ثبات الخبر، وليكون الإِتيان بالموصول مشعرا بأنهم عرفوا بهذه الصّلة.
وصيغة المضارع في {يقولون} يشعر بأنّ في هذه المقالة تتكرّر منهم لقصد إفشائها.
و{من عند رسول الله} من كانوا في رعايته مثل أهل الصُفّة ومن كانوا يلحقون بالمدينة من الأعراب العُفاة أو فريق من الأعراب كان يموّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق.
روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أُبيّ: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله» وهذا كلام مكر لأن ظاهره قصد الرفق برسول الله صلى الله عليه وسلم من كلفة إنفاق الأعراب الذين ألمُّوا به في غزوة بني المصطلق، وباطنه إرادة إبعاد الأعراب عن تلقي الهدي النبوي وعن أن يتقوى بهم المسلمون أو تفرقُ فُقراء المهاجرين لتضعف بتفرقهم بعض قوة المسلمين.
وروايات حديث زيد مختلطة.
وقوله: {رسول الله} يظهر أنه صدر من عبد الله بن أُبيّ ومن معه من المنافقين بهذا اللفظ إذا كانوا قالوا ذلك جهرا في ملإِ المسلمين إذ هم يتظاهرون ساعتئذٍ بالإِسلام.
و{حتّى} مستعملة في التعليل بطريقة المجاز المرسل لأن معنى {حتى} انتهاء الفعل المذكور قبلها وغايةُ الفعل ينتهي الفاعل عن الفعل إذا بلغها، فهي سبب للانتهاء وعلّة له، وليس المراد فإذا نفضوا فأنفقوا عليهم.
والإِنفضاض: التفرق والابتعاد.
{ينفضُّواْ ولِلّهِ خزآئِنُ السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون}.
عطف على جملة {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} إبطال لمكر المنافقين فيما قصدوه من قولهم المتظاهرين بأنهم قصدوا به نصح المسلمين، أي لو تمشت حيلتهم على المسلمين فأمسكوا هم وبعض المسلمين عن إنفاق الأعراب ومن يأوون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العفاة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقطع عنهم الإِنفاق وذلك دأبه كما دل عليه حديث عمر بن الخطاب «أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما عندي شيء ولكن ابتع عليّ فإذا جاءني شيء قضيتُه.
فقال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر.
فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذِي العرششِ إقلالا.
فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعُرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ثم قال: بهذا أُمرتُ»
.
رواه الترمذي في كتاب (الشمائل).
وهذا جواب من باب طريقة النقض لكلامهم في مصطلح آداب البحث.
و{خزائن} جمع خزانة بكسر الخاء.
وهي البيت الذي تُخزن فيه الطعام قال تعالى: {قال اجعلني على خزائن الأرض} تقدم في سورة يوسف (55).
وتطلق على الصندوق الكبير الذي يخزن فيه المال على سبيل التوسع وعلى بيوت الكتب وصناديقها، ومن هذا ما جاء في حديث الصرف من الموطأ «حتى يحضر خازني من الغابة».
و{خزائن السماوات} مقارّ أسباب حصول الأرزاق من غيوث رسمية وأشعة الشمس والرياح الصالحة فيأتي ذلك بتوفير الثمار والحبوب وخصب المرعى وتزايد النتاج.
وأما خزائن الأرض فما فيها من أهرية ومطامير وأندر، ومن كنوز الأحوال وما يفتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من البلاد وما يفيء عليه من أهل القرى.
واللام في {لله} الملك أي التصرف في ذلك ملك لله تعالى.
ولما كان الإِنفاق على فُقراء المسلمين مما يعين على ظهور الدين الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كان الإِخبار بأن الخزائن لله كناية عن تيسير الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حصول ما ينفق منه كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له الأنصاري: «ولا تخش من ذي العرش إقلالا» «بهذا أُمرت».
وذلك بما سيره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من زكوات المسلمين وغنائم الغزوات، وما فتح الله عليه من البلاد بخيراتها، وما أفاء الله عليه بغير قتال.
وتقديم المجرور من قوله: {ولله خزائن السماوات والأرض} لإِفادة قصر القلب وهو قلب للازم قولهم لا لصريحه لأن المنافقين لما قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} حسبوا أنهم إذا قطعوا الإِنفاق على من عند رسول الله لا يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينفق منه عليهم فأعلم الله رسوله مباشرة وأعلمهم تبعا بأن ما عند الله من الرزق أعظم وأوسع.
واستدراك قوله: {ولكن المنافقين لا يفقهون} لرفع ما يتوهم من أنهم حين قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} كانوا قالوه عن بصيرة ويقين بأن انقطاع إنفاقهم على الذين يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع رزقهم فينفضون عنه بناء على أن القدرة على الإِنفاق منحصرة فيهم لأنهم أهل الأحوال وقد غفلوا عن تعدد أسباب الغنى وأسباب الفقر.
والمعنى: أنهم لا يدركون دقائق المدركات وخفاياها.
ومفعول {يفقهون} محذوف، أي لا يفقهون ذلك وهو مضمون {لله خزائن السماوات والأرض}، أو نُزل الفعل منزلة اللازم مبالغة في انتفاء فقه الأشياء عنهم في كل حال.
{يقولون لئِنْ رجعْنا إِلى الْمدِينةِ ليُخْرِجنّ الْأعزُّ مِنْها الْأذلّ ولِلّهِ الْعِزّةُ ولِرسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِين ولكِنّ الْمُنافِقِين لا يعْلمُون (8)}
استئناف ثان على أسلوب التعداد والتكرير ولذلك لم يعطف.
ومثله يكثر في مقام التوبيخ.
وهذا وصف لخبث نواياهم إذْ أرادوا التهديد وإفساد إخلاص الأنصار وأخوّتهم مع المهاجرين بإلقاء هذا الخاطر في نفوس الأنصار بذرا للفتنة والتفرقة وانتهازا لخصومة طفيفة حدثت بين شخصين من موالي الفريقين، وهذا القول المحكي هنا صدر من عبد الله بن أُبيّ ابن سلول حين كسع حليفُ المهاجرين حليف الأنصار كما تقدم في ذكر سبب نزول هذه السورة، وعند قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} [المنافقون: 7] فإسناد القول إلى ضمير المنافقين هنا كإسناده هناك.
وصيغة المضارع في حكاية هذه المقالة لاستحضار الحالة العجيبة كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74].
والمدينة هي مدينتهم المعهودة وهي يثرب.
و{الأعزّ}: القويّ العِزة وهو الذي لا يُقهر ولا يُغلب على تفاوت في مقدار العزّة إذ هي من الأمور النسبية.
والعزة تحصل بوفرة العدد وسعة المال والعُدة، وأراد بـ {الأعز} فريق الأنصار فإنهم أهل المدينة وأهل الأموال وهم أكثر عددا من المهاجرين فأراد ليُخْرجن الأنصار من مدينتهم من جاءها من المهاجرين.
وقد أبطل الله كلامهم بقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وهو جواب بالطريقة التي تسمي القول بالموجب في علم الجدل وهي مما يسمّى بالتسليم الجدلي في علم آداب البحث.
والمعنى: إن كان الأعزّ يخرج الأذلّ فإن المؤمنين هم الفريق الأعزّ.
وعزتهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وبتأييد الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأولياءه لأن عزّة الله هي العزّة الحق المطلقة، وعزّة غيره ناقصة، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يُقهرون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به.
فإن كان إخراجٌ من المدينة فإنما يُخرج منها أنتم يا أهل النفاق.
وتقديم المسند على المسند إليه في {ولله العزة} لقصد القصر وهو قصر قلب، أي العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين لا لكم كما تحسبون.
وإعادة اللام في قوله: {ولرسوله} مع أن حرف العطف مُغن عنها لتأكيد عزّة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها بسبب عزّة الله ووعده إياه، وإعادة اللام أيضا في قوله: {وللمؤمنين} للتأكيد أيضا إذ قد تخفى عزتهم وأكثرهم في حال قلة وحاجة.
والقول في الاستدراك بقوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون} نظير القول آنفا في قوله: {ولكن المنافقين لا يفقهون} [المنافقون: 7].
وعدل عن الإِضمار في قوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون}.
وقد سبق اسمهم في نظيرها قبلها لتكون الجملة مستقلة الدلالة بذاتها فتسير سير المثل.
وإنما نفي عنهم هنا العلم تجهيلا بسوء التأمل في أمارات الظهور والانحطاط فلم يفطنوا للإِقبال الذي في أحوال المسلمين وازدياد سلطانهم يوما فيوما وتناقص من أعدائهم فإن ذلك أمر مشاهد فكيف يظن المنافقون أن عزتهم أقوى من عزّة قبائل العرب الذين يسقطون بأيدي المسلمين كلما غزوهم من يوم بدر فما بعده. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{إِذا جاءك الْمُنافِقُون قالوا نشْهدُ إِنّك لرسُولُ اللّهِ}
فضح الله تعالى بهذه الآية سريرة المنافقين، وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم {نشهد إنك لرسول الله}، وهم في إخبارهم هذا كاذبون، لأن حقيقة الكذب أن يخبر الإنسان بضد ما في قلبه، وكسرت الألف من (إن) في الثلاثة، لدخول اللام المؤكدة في الخبر، وذلك لا يكون مع المفتوحة، وقوله: {نشهد} وما جرى مجراها من أفعال اليقين، والعلم يجاب بما يجاب به القسم، وهي بمنزلة القسم، وقرأ الناس: {أيْمانهم} جميع يمين، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بخلاف {إيمانهم}، بكسر الألف، أي هذا الذي تظهرون، وهذا على حذف مضاف، تقديره: إظهار إيمانهم، والجنة: ما يستتر به في الأجرام والمعاني، وقوله تعالى: {فصدوا} يحتمل أن يكون غير متعد تقول: صد زيد، ويحتمل أن يكون متعديا كما قال:
صددت الكأس عنا أم عمرو

والمعنى: صدوا غيرهم ممن كان يريد الإيمان أو من المؤمنين في أن يقاتلوهم وينكروا عليهم، وتلك سبيل الله فيهم، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية، وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى فعل الله تعالى في فضيحتهم وتوبيخهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى ساء عملهم أن كفروا بعد إيمانهم، وقوله تعالى: {آمنوا ثم كفروا} إما أن يريد به منهم من كان آمن ثم نافق بعد صحة من إيمانه، وقد كان هذا موجودا، وإما أن يريدهم كلهم، فالمعنى ذلك أنهم أظهروا الإيمان ثم كفروا في الباطن أمرهم فسمى ذلك الإظهار إيمانا، وقرأ بعض القراء: {فطبع} على بناء الفعل للفاعل، وقرأ جمهور القراء: {فطُبع} بضم الطاء على بنائه للمفعول بغير إدغام. وأدغم أبو عمرو، وقرأ الأعمش: {فطبع الله}، وعبر بالطبع عما خلق في قلوبهم من الريب والشك وختم عليهم به من الكفر والمصير إلى النار، وقوله تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم} توبيخ لهم لأنهم كانوا رجالا أجمل شيء وأفصحه، فكان نظرهم يروق وقولهم يخيب، ولكن الله تعالى جعلهم (كالخشب المسندة)، وإنما هي أجرام لا عقول لها، معتمدة على غيرها، لا تثبت بأنفسها، ومنه قولهم: تساند القوم إذا اصطفوا وتقابلوا للقتال، وقد يحتمل أن يشبه اصطفافهم في الأندية باصطفاف الخشب المسندة وخلوهم من الأفهام النافعة خلو الخشب من ذلك، وقال رجل لابن سيرين: رأيتني في النوم محتضنا خشبة، فقال ابن سيرين: أظنك من أهل هذه الآية وتلا: {كأنهم خشب مسندة}. وقرأ عكرمة وعطية: {يُسمع} مضمومة بالياء، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وعاصم: {خُشُب} بضم الخاء والشين، وقرأ قنبل وأبو عمرو والكسائي: {خُشْب} بضم الخاء وإسكان الشين وهي قراءة البراء بن عازب واختيار ابن عبيد.
وقرأ سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب: {خشب} بفتح الخاء والشين، وذلك كله جمع خشبة بفتح الخاء والشين، فالقراءتان أولا كما تقول: بُدْنة وبدْن وبُدْن: قاله سيبويه، والأخيرة على الباب في تمرة وتمر.
وكان عبد الله بن أبي من أبهى المنافقين وأطولهم، ويدل على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه، وقد تقدم في سورة البقرة تحرير أمر المنافقين وكيف سترهم الإسلام.
وقوله تعالى: {يحسبون كل صيحة عليهم}، فضح أيضا لما كانوا يسرونه من الخوف، وذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله بقتلهم، وقال مقاتل: فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان أو أخبروا بنزول وحي طارت عقولهم حتى يسكن ذلك. ويكون في غير شأنهم، وجرى هذا اللفظ مثلا في الخائف، ونحو قول الشاعر بشار بن برد العقيلي: الوافر:
يروّعه السرار بكل أرض ** مخافة أن يكون به السرار

وقول جرير: الكامل:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ** خيلا تكر عليهمُ ورجالا

ثم أخبر تعالى بأنهم {العدو} وحذر منهم، و{العدو} يقع للواحد والجمع، وقوله تعالى: {قاتلهم الله} دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة، وتمني الشر لهم، وقوله تعالى: {أنى يؤفكون} معناه: كيف يصرفون، ويحتمل أن يكون {أنى} استفهاما، كأنه قال كيف يصرفون أو لأي سبب لا يرون أنفسهم، ويحتمل أن يكون: {أنى} ظرفا ل {قاتلهم} كأنه قال: {قاتلهم الله}، كيف انصرفوا أو صرفوا، فلا يكون في القول استفهام على هذا.
{وإِذا قِيل لهُمْ تعالوْا يسْتغْفِرْ لكُمْ رسُولُ اللّهِ لوّوْا رُءُوسهُمْ ورأيْتهُمْ يصُدُّون وهُمْ مُسْتكْبِرُون (5)}
كان أمر عبد الله بن أبي ابن سلول، أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فبلغ الناس إلى ماء سبق إليه المهاجرون وكأنهم غلبوا الأنصار عليه بعض الغلبة، فقال عبد الله بن أبي لأصحابه: قد كنت قلت لكم في هؤلاء الجلابيب ما قلت فلم تسمعوا مني، وكان المنافقون ومن لا يتحرى يسمي المهاجرين الجلابيب ومنه قول حسان بن ثابت: البسيط:
أرى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ** وابن القريعة أمسى بيضة البلد

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتحض علينا يا حسان» ثم إن الجهحاه الغفاري كان أجيرا لعمر بن الخطاب ورد الماء بفرس لعمر، فازدحم هو وسنان بن وبرة الجهني وكان حليفا للأوس فكسع الجهجاه سنانا، فغضب سنان فتأثروا، ودعا الجهجاه: يا للمهاجرين، ودعا سنان: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية»، فلما أخبر بالقصة، قال: «دعوها فإنها منتنة». واجتمع في الأمر عبد الله بن أبيّ في قوم من المنافقين، وكان معهم زيد بن أرقم فتى صغيرا لم يتحفظ منه، فقال عبد الله بن أبي: أوقد تداعوا علينا فوالله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وقال بهم: {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل}، وقال لهم: إنما يقيم هؤلاء المهاجرون مع محمد بسبب معونتكم وإنفاقكم عليهم، ولو قطعتم ذلك عنهم لفروا، فذهب زيد بن أرقم إلى عمه وكان في حجره وأخبره، فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا زيد، غضبت على الرجل أو لعلك وهمت»، فأقسم زيد ما كان شيء من ذلك، ولقد سمع من عبد الله بن أبيّ ما حكى، فعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي عند رجال من الأنصار، فبلغه ذلك، فجاء وحلف ما قال، وكذّب زيدا، وحلف معه قوم من المنافقين، فكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا، وصدق عبد الله بن أبي، فبقي زيد في منزله لا يتصرف حياء من الناس، فنزلت هذه السورة عند ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيد وقال له: «لقد صدقك الله يا زيد ووفت أذنك»، فخزي عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، ومقته الناس، ولامه المؤمنون من قومه وقال بعضهم: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترف بذنبك يستغفر لك، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم عليّ بأن أعطي زكاة من مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد.
قال القاضي أبو محمد: فهذا هو قصص هذه السورة موجزا، و{تعال} نداء يقتضي لفظه أنه دعاء الأعلى للأسفل، ثم استعمل لكل داع لما فيه من حسن الأدب. وقرأ نافع والمفضل عن عاصم {لووا} بتخفيف الواو، وهي قراءة الحسن بخلاف ومجاهد، وأهل المدينة، وقرأ الباقون وأبو جعفر والأعمش: {لوّوا} بشد الواو على تضعيف المبالغة، وهي قراءة طلحة وعيسى وأبي رجاء وزر والأعرج، وقرأ بعض القراء هنا: {يصِدون} بكسر الصاد، والجمهور بضمها، وقوله تعالى: {سواء عليهم} الآية، روي أنه لما نزلت: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لهم} [التوبة: 80]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأزيدن على السبعين»، وفي حديث آخر: «لو علمت أني إن زدت على السبعين غفر لهم لزدت»، فكأنه عليه السلام رجا أن هذا الحد ليس على جهة الحتم جملة، بل على أن ما يجاوزه يخرج عن حكمه، فلما فعل ابن أبي وأصحابه ما فعلوا شدد الله تعالى عليهم في هذه السورة، وأعلم أنه لن يغفر لهم دون حد في الاستغفار، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أعلم أني إن زدت غفر لهم» نص على رفض دليل الخطاب.
وقرأ جمهور الناس: {أستغفرت} بالقطع وألف الاستفهام، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {آستغفرت} بمدّ على الهمزة وهي ألف التسوية، وقرأ أيضا: بوصل الألف دون همز على الخبر، وفي هذا كله ضعف لأنه في الأولى: أثبت همزة الوصل، وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية: حذف همزة الاستفهام وهو يريدها وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر. اهـ.